الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن القيم: وأما الأزواج فجمع زوج- وقد يقال زوجة- والأول أفصح وبها جاء القرآن.قال تعالى لآدم: {اسكن أنت وزوجك الجنة} وقال تعالى في حق زكريا: {وأصلحنا له زوجه}.ومن الثاني: قول ابن عباس في عائشة رضي الله عنها «إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة».وقال الفرزدق:وقد جمع على زوجات، وهذا إنما هو جمع زوجة وإلا فجمع زوج أزواج.. قال تعالى: {وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون} [يس: 56].وقال تعالى: {أنتم وأزواجكم تحبرون} [الزغرف: 71]، وقد وقع في القرآن الإخبار عن أهل الإيمان يلفظ الزوج مفردًا وجمعًا.كما تقدم وقال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجهم أمهاتهم} [الأحزاب: 6]، وقال تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك} [الأحزاب: 38] والإخبار عن أهل الشرك بلفظ المرأة قال تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب} إلى قوله: {وامرأته حماله الحطب في جيدها حبل من مسد} وقال تعالى في فرعون [التحريم: 10]: {ضرب الله مثلًا للذين آمنوا امرأة فرعون} فلما كان هو المشرك وهي مؤمنة لم يسمها زوجًا له، وقال تعالى: [التحريم: 11]: {ضرب الله مثلًا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط} فلما كانتا مشركتين أوقع عليها اسم المرأة وقال في حق آدم {اسكن أنت وزوجك الجنة} وقال للنبي صلى الله عليه وسلم [الأحزاب: 50]: {إنا أحللنا لك أزواجك} وقال في حق المؤمنين: {ولهم فيها أزواج مطهرة}.فقالت طائفة.. منهم السهيلي وغيره: إنما لم يقل في حق هؤلاء الأزواج لأنهن لسن بأزواج لرجالهن في الآخرة، ولأن الترويج حلية شرعية، وهي من أمر الدين فجرد الكافرة منه.. كما جرد منه امرأة نوح وامرأة لوط.ثم أورد السهيلي على نفسه قول زكريا [مريم: 5]: {وكانت امرأتي عاقرًا} وقوله عن إبراهيم عليه السلام [الذاريات: 29]: {فأقبلت امرأته في صرة}.وأجاب: بأن ذكر المرأة أليق في هذه المواضع.. لأنه في سياق ذكر الحمل والولادة فذكر المرأة أولى به لأن الصفة- التي هي الأنثوية- هي المقتضية للحمل والوضع لا من حيث كانت زوجًا.قلت: لو قيل: إن السر في ذكر المؤمنين ونسائهم بلفظ الأزواج أن هذا اللفظ مشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران.. كما هو المفهوم من لفظه: لكان أولى فإن الزوجين هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان والمتساويان.ومنه قوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} [الصافات: 22] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {أزواجهم} أشباههم ونظراؤهم.وقال الإمام أحمد أيضًا ومنه قوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت} [التكوير: 7] أي قرن بين كل شكل وشكله في النعيم والعذاب.. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الآية الصالح مع الصالح في الجنة والفاجر مع الفاجر في النار وقاله الحسن وقتادة والأكثرون وقيل: زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين.وهو راجع إلى القول الأول.وقال تعالى: [الأنعام: 142]: {ثمانية أزواج} ثم فسرها بقوله: {ومن الضان اثنتين ومن المعز اثنتين ومن الإبل اثنتين} فجعل الزوجين هما الفردان من نوع واحد ومنه قولهم زوجا خف وزوجا حمام ولا ريب أن الله سبحانه تعالى قطع المشابهة والمشاكلة بين الكفار والمؤمنين قال تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20]، وقال تعالى في حق مؤمن أهل الكتاب وكافرهم: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة} [آل عمران: 113] وقطع سبحانه المقارنة بينهما في أحكام الدنيا فلا يتوارثان ولا يتناكحان ولا يتولى أحدهما صاحبه.. فكما انقطعت الصلة بينهما في المعنى انقطعت في الاسم فأضاف فيهما المرأة بلفظ الأنوثة المجرد، دون لفظ المشاكلة والمشابهة فتأمل هذا المعنى تجده أشد مطابقة لألفاظ القرآن ومعانيه، ولهذا أوقع على المسلمة امرأة الكافر وعلى الكافرة امرأة المؤمن: لفظ المرأة دون لفظ الزوجة تحقيقًا لهذا المعنى والله أعلم وهذا أولى من قول من قال: إنما سمي صاحبة أبي لهب امرأته ولم يقل لها زوجته لأن أنكحه الكفار لا يثبت لها حكم الصحة بخلاف أنكحة أهل الإسلام.فإن هذا باطل بإطلاق اسم المرأة على امرأة نوح وامرأة لوط مع صحته ذلك النكاح.وتأمل هذا المعنى في آية المواريث، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ أزواجكم إيذانًا بأن هناك التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب فلا يقع بينهما التوارث وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:قوله جلّ ذكره: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}.هذه البشارة بالجنان تتضمن تعريفًا بِنعِم مؤجلة لعموم المؤمِنين على الوصف الذي يُشْرَح بلسان التفسير. ويشير إلى البشارة للخواص بنعم مُعَجَّلة مضافة إلى تلك النعم يتيح ها الله لهم على التخصيص، فتلك المؤجلة جنان المثوبة وهذه جنان القُربَة، وتلك رياض النزهة وهذه رياض الزُّلفة، بل تلك حدائق الأفضال وهذه حقائق الوِصال، وتلك رفع الدرجات وهذه رَوْح المناجاة، وتلك قضية جوده، هذه الاشتعال بوجوده، وتلك راحة الأبشار وهذه نزهة الأسرار، وتلك لطف العَطاء للظواهر وهذه كشف الغِطاء عن السرائر، وتلك لطف نواله وأفضاله وهذه كشف جماله وجلاله.قوله جلّ ذكره: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.كما أن أهل الجنة تتجدد عليهم النعم في كل وقت، فالثاني عندهم- على ما يظنون- كالأول، فإِذا ذاقوه وجدوه فوق ما تقدّم- فكذلك أهل الحقائق: أحوالهم في السرائر أبدًا في الترقي، فإِذا رُقيِّ أحدهم عن محلِّه توهَّم أن الذي سيلقاه في هذا النَّفَس مثل ما تقدم فإِذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم:.فصل في وصف نعيم الجنة: قال حجة الإسلام الغزالي- رحمه الله- واصفًا نعيم أهل الجنة بعد أن ذكر شقاء أهل النار وعذابهم:اعلم أن تلك الدار التي عرفت همومها وغمومها تقابلها دار أخرى.. فتأمل نعيمها وسرورها فإن من بعد من أحدهما استقر لا محالة في الأخرى.. فاستشر الخوف من قلبك بطول الفكر وأهوال الجحيم واستشر الرجاء بطول الفكر في النعيم المقيم الموعود لأهل الجنان، وسق نفسك بسوط الخوف وقدها بزمام الرجاء إلى الصراط المستقيم فبذلك تنال الملك العظيم وتسلم من العذاب الأليم.. فتفكر في أهل الجنة وفي وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم.. جالسين على منابر الياقوت الأحمر في خيام من اللؤلؤ الرطب الأبيض فيها بسط من العبقري الأخضر.. متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل محفوفة بالغلمان والولدان مزينة بالحور العين من الخيرات الحسان كأنهن الياقوت والمرجان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان.. يمشين في درجات الجنان إذا اختالت إحداهن في مشيها حمل أعطافها سبعون ألفًا من الولدان، عليها من طرائف الحرير الأبيض ما تتحير فيه الأبصار مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان شكلات غنجان عطرات آمنات من الهرم والبؤس مقصورات في الخيام في قصور من الياقوت بنيت وسط روضات الجنان.. قاصرات الطرف عين.. ثم يطاف عليهم وعليهن بأكواب وأباريق وكأس من معين بيضاء لذة للشاربين، ويطوف عليهم خدام وولدان كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون.. في مقام أمين في جنات وعيون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ينظرون فيها إلى وجه الملك الكريم وقد أشرقت في وجوههم نضرة النعيم لا يرهقهم قتر ولا ذلة بل عباد مكرمون وبأنواع التحف من ربهم يتعاهدون فهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يخافون فيها ولا يحزنون وهم من ريب المنون آمنون فهم فيها يتنعمون ويأكلون من أطعمتها ويشربون من أنهارها لبنًا وخمرًا وعسلًا من أنهار أراضيها من فضة وحصباؤها مرجان وعلى أرض ترابها مسك أذفر ونباتها زعفران ويمطرون من سحاب فيها من ماء النسرين على كثبان الكافور ويؤتون بأكواب وأي أكواب بأكواب من فضة مرصعة بالدر والياقوت والمرجان كوب فيه من الرحيق المختوم ممزوج به السلسبيل العذب كوب يشرق نوره من صفاء جوهره يبد والشراب من ورائه برقته وحمرته لم يصنعه آدمي فيقصر في تسوية صنعته وتحسين صناعته في كف خادم يحكي ضياء وجهة الشمس في إشراقها ولكن من أين للشمس حلاوة مثل حلاوة صورته وحسن أصداغه وملاحة أحداقة فيا عجبًا لمن يؤمن بدار هذه صفتها ويوقن بأنه لا يموت أهلها ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها ولا ننظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها كيف يأنس بدار قد أذن الله في خرابها ويتهنأ بعيش دونها؟والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان من الأمن من الموت والجوع والعطش وسائر أصناف الحدثان لكان جديرًا بأن يهجر الدنيا بسببها!كيف وأهلها ملوك آمنون وفي أنواع السرير ممتعون لهم فيها ما يشتهون وهم في كل يوم بفناء العرش يحضرون وإلى وجه الله الكريم ينظرون وينالون بالنظر من الله مالا ينظرون معه إلى سائر نعيم الجنان ولا يلتفتون وهم على الدوام بين أصناف هذه النعم يترددون وهم من زوالها آمنون.. قال أبو هريرة قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينادي مناد يا أهل الجنة أن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا وإن تحيوا فلا تموتوا أبدًا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدًا فذلك قوله عز وجل: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}. اهـ..من فوائد الطبرى في الآية: قال عليه الرحمة:أما قوله تعالى: {وبشِّر} فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها الخبرُ بما يُسَرُّ به المخبَرُ، إذا كان سابقًا به كل مخبِرٍ سواه.وهذا أمر من الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقَه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه، وصدّقوا إيمانهم ذلك وإقرَارهم بأعمالهم الصالحة، فقال له: يا محمد، بشِّرْ من صدَّقك أنك رسولي- وأن ما جئتَ به من الهدى والنور فمن عندي، وحقَّق تصديقَه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتُها عليه، وأوجبتُها في كتابي على لسانك عليه- أن له جنات تجري من تحتها الأنهار، خاصةً، دُون من كذَّب بك وأنكرَ ما جئته به من الهدى من عندي وعاندك، ودون من أظهر تصديقك، وأقرّ أن ما جئته به فمن عندي قولا وجحده اعتقادًا، ولم يحققه عملا. فإن لأولئك النارَ التي وقُودها الناسُ والحجارة، مُعدةً عندي. والجنات: جمع جنة، والجنة: البستان.وإنما عَنى جلّ ذكره بذكر الجنة: ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها، دون أرضها- ولذلك قال عز ذكره: {تجري من تحتها الأنهار}.لأنّه معلومٌ أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبرَ عن ماء أنهارها أنه جارٍ تحت أشجارها وغروسها وثمارها، لا أنه جارٍ تحت أرضها. لأن الماء إذا كان جاريًا تحت الأرض، فلا حظَّ فيها لعيون منْ فَوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه. على أنّ الذي تُوصف به أنهارُ الجنة، أنها جارية في غير أخاديد.فإذا كان الأمر كذلك، في أنّ أنهارَها جارية في غير أخاديد، فلا شكّ أنّ الذي أريدَ بالجنات: أشجارُ الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها، إذ كانت أنهارُها تجري فوق أرضها وتحتَ غروسها وأشجارها، على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جاريةً تحت أرضها.وإنما رغَّب الله جل ثناؤه بهذه الآية عبادَه في الإيمان، وحضّهم على عبادته بما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده، كما حذّرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعدّ- لأهل الكفر به، الجاعلين معه الآلهةَ والأنداد- من عقابه عن إشراك غيره معه، والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وتَرك طاعته.قوله جل ثناؤه: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} يعني تعالى ذكره بقوله: {كلما رُزقوا منها} من الجنات، والهاء راجعةٌ على الجنات، وإنما المعنيّ أشجارها، فكأنه قال: كلما رُزقوا- من أشجار البساتين التي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته- من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل.ثم اختلف أهلُ التأويل في تأويل قوله: {هذا الذي رُزقنا من قَبل}.فقال بعضهم: تأويل ذلك: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا.وقال آخرون: بل تأويلُ ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا، لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضًا. ومن علة قائلي هذا القول: أن ثمار الجنة كلما نزع منها شيءٌ عاد مكانه آخرُ مثله.قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة، لأن التي عادت، نظيرةُ التي نُزعت فأكِلت، في كل معانيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه: {وأتوا به متشابهًا} لاشتباه جميعه في كل معانيه.وقال بعضهم: بل قالوا: {هذا الذي رزقنا من قبل} لمشابهته الذي قبله في اللون، وإن خالفه في الطعم.وهذا التأويل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفَع صحته ظاهرُ التلاوة. والذي يدل على صحته ظاهرُ الآية ويحقق صحته، قول القائلين: إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال: {كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا} فأخبر جل ثناؤه أنّ مِنْ قِيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقًا، أن يقولوا: هذا الذي رُزقا من قبلُ. ولم يخصص بأن ذلك من قِيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جلّ ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها، فلا شكّ أن ذلك من قيلهم في أول رزق رُزقوه من ثمارها أتُوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها، الذي لم يتقدّمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أنّ ذلك من قيلهم في أوله، كما هو من قيلهم في أوْسطه وَما يَتلوه فمعلومٌ أنه مُحال أن يكون من قيلهم لأول رزق رُزقوه من ثمار الجنة: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا من ثمار الجنة! وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رُزقوه من ثمارها ولمَّا يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رُزقناه من قبل؟ إلا أن ينسُبهم ذُو غَيَّة وضَلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه، أو يدفعَ دافعٌ أن يكونَ ذلك من قيلهم لأول رزق رُزقوه منها مِن ثمارها، فيدفعَ صحة ما أوجب الله صحّته بقوله: {كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا} من غير نَصْب دلالة على أنه معنيّ به حالٌ من أحوال دون حال.فقد تبيّن بما بيَّنا أنّ معنى الآية: كلما رُزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا.فإن سألنا سائل، فقال: وكيف قال القوم: هذا الذي رُزقنا من قبل، والذي رُزقوه من قبل قد عُدم بأكلهم إياه؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له؟قيل: إن الأمر على غير ما ذهبتَ إليه في ذلك. وإنما معناه: هذا من النوع الذي رُزقناه من قَبل هذا، من الثمار والرزق. كالرجل يقول لآخر: قد أعدّ لك فلانٌ من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبيخ والشواء والحلوى. فيقول المقول له ذاك: هذا طعامي في منزلي. يعني بذلك: أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعدّه له من الطعام هو طعامُه، لا أنّ أعيانَ ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له، هو طعامه. بل ذلك مما لا يجوز لسامع سَمعه يقول ذلك، أن يتوهم أنه أراده أو قصدَه، لأن ذلك خلافُ مَخرَج كلام المتكلم. وإنما يوجَّه كلام كلّ متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه، دون المجهول من معانيه. فكذلك ذلك في قوله: {قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل} إذ كان ما كانوا رُزقوه من قبل قد فني وعُدِم. فمعلوم أنهم عَنَوْا بذلك: هذا من النوع الذي رُزقناه من قبل، ومن جنسه في السِّمَات والألوان على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا.قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} والهاء في قوله: {وأتُوا به مُتشابهًا} عائدة على الرزق، فتأويله: وأتوا بالذي رُزقوا من ثمارها متشابهًا.وقد اختلَفَ أهلُ التأويل في تأويل المتشابه في ذلك:فقال بعضهم: تشابهه أنّ كله خيار لا رَذْلَ فيه.وقال بعضهم: تشابُهه في اللون وهو مختلف في الطعم.وقال بعضهم: تشابُهه في اللون والطعم.وقال بعضهم: تشابهه، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون، وإن اختلف طعومهما.وقال بعضهم: لا يُشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء.قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، تأويلُ من قال: وأتوا به متشابهًا في اللون والمنظر، والطعمُ مختلف. يعني بذلك اشتباهَ ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون، مختلفًا في الطعم والذوق، لما قدّمنا من العلة في تأويل قوله: {كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل} وأن معناه: كلما رُزقوا من الجِنان من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا: فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك، ومن أجل أنهم أتُوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابهًا، يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه، والذي كانوا رُزقوه في الدنيا، في اللون والمرأى والمنظر، وإن اختلفا في الطعم والذوق، فتباينا، فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا.وقد دللنا على فساد قول من زعم أنّ معنى قوله: {قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثَمر الجنة ببعض. وتلك الدلالة على فساد ذلك القول، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله: {وأتوا به متشابهًا} لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم: {هذا الذي رُزقنا من قبل} بقوله: {وأتوا به متشابهًا}.ويُسأل من أنكر ذلك، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرًا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه، فيقال له: أيجوز أن يكون أسماءُ ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائرَ أسماء ما في الدنيا منها؟فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله، لأن الله جل ثناؤه إنما عرّف عبادَه في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك.وإن قال: ذلك جائز، بل هو كذلك.قيل: فما أنكرتَ أن يكون ألوانُ ما فيها من ذلك، نظيرَ ألوان ما في الدنيا منه، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المَرآة والمنظر، فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المَرآة والمنظر، خلافُ الذي لما في الدنيا منه، كما كان جائزًا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضْل في أجسامها؟ ثم يُعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قال أبو جعفر: والهاء والميم اللتان في {لهم} عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والهاء والألف اللتان في {فيها} عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك: وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات فيها أزواجٌ مطهرة.والأزواج جمع زَوْج، وهي امرأة الرجل. يقال: فلانة زَوْجُ فلان وزوجته.وأما قوله: {مطهَّرة} فإن تأويله أنهن طُهِّرن من كل أذًى وقَذًى وريبةٍ، مما يكون في نساء أهل الدنيا، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبُصاق والمنيّ، وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره.قوله: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون. والهاء والميم من قوله: {وهم} عائدة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات. والهاء والألف في: {فيها} على الجنات. وخلودهم فيها دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الْحَبْرَةِ والنعيم المقيم. اهـ. بتصرف يسير.
|